سورة القمر - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القمر)


        


قوله: {اقتربت الساعة وانشق القمر} أي: قربت، ولا شك أنها قد صارت باعتبار نسبة ما بقي بعد قيام النبوّة المحمدية إلى ما مضى من الدنيا قريبة. ويمكن أن يقال: إنها لما كانت متحققة الوقوع لا محالة كانت قريبة، فكلّ آت قريب {وانشق القمر} أي: وقد انشقّ القمر، وكذا قرأ حذيفة بزيادة: «قد»، والمراد الانشقاق الواقع في أيام النبوّة معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا ذهب الجمهور من السلف والخلف. قال الواحدي: وجماعة المفسرين على هذا إلاّ ما روى عثمان بن عطاء عن أبيه أنه قال: المعنى: سينشقّ القمر، والعلماء كلهم على خلافه. قال: وإنما ذكر اقتراب الساعة مع انشقاق القمر؛ لأن انشقاقه من علامات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، ونبوّته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة. قال ابن كيسان: في الكلام تقديم وتأخير، أي: انشقّ القمر، واقتربت الساعة.
وحكى القرطبي عن الحسن مثل قول عطاء أنه الانشقاق الكائن يوم القيامة. وقيل: معنى {وانشقّ القمر}: وضح الأمر وظهر، والعرب تضرب بالقمر المثل فيما وضح، وقيل: انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه، وطلوعه في أثنائها، كما يسمى الصبح فلقاً لانفلاق الظلمة عنه. قال ابن كثير: قد كان الانشقاق في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة. قال: وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات. قال الزجاج: زعم قوم عندوا عن القصد وما عليه أهل العلم أن تأويله أن القمر ينشقّ يوم القيامة، والأمر بين في اللفظ، وإجماع أهل العلم، لأن قوله: {وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} يدلّ على أن هذا كان في الدنيا لا في القيامة. انتهى، ولم يأت من خالف الجمهور، وقال إن الانشقاق سيكون يوم القيامة إلاّ بمجرد استبعاد، فقال: لأنه لو انشق في زمن النبوّة لم يبق أحد إلاّ رآه؛ لأنه آية والناس في الآيات سواء. ويجاب عنه بأنه لا يلزم أن يراه كل أحد لا عقلاً، ولا شرعاً، ولا عادة، ومع هذا، فقد نقل إلينا بطريق التواتر، وهذا بمجرده يدفع الاستبعاد، ويضرب به في وجه قائله.
والحاصل أنا إذا نظرنا إلى كتاب الله، فقد أخبرنا بأنه انشقّ، ولم يخبرنا بأنه سينشق، وإن نظرنا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الصحيح، وغيره من طرق متواترة أنه قد كان ذلك في أيام النبوّة، وإن نظرنا إلى أقوال أهل العلم، فقد اتفقوا على هذا، ولا يلتفت إلى شذوذ من شذّ، واستبعاد من استبعد، وسيأتي ذكر بعض ما ورد في ذلك إن شاء الله.
{وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} قال الواحدي: قال المفسرون: لما انشقّ القمر قال المشركون: سحرنا محمد، فقال الله: {وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً} يعني: انشقاق القمر يعرضوا عن التصديق والإيمان بها، ويقولوا: سحر قويّ شديد يعلو كل سحر، من قولهم استمرّ الشيء: إذا قوي واستحكم، وقد قال بأن معنى {مستمرّ}: قوي شديد جماعة من أهل العلم. قال الأخفش: هو مأخوذ من إمرار الحبل، وهو شدّة فتله، وبه قال أبو العالية، والضحاك، واختاره النحاس، ومنه قول لقيط:
حتَّى استمرّت على شَر لا يزنه *** صِدْقُ العزيمة لا رثا ولا ضَرَعا
وقال الفراء، والكسائي، وأبو عبيدة: {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} أي: ذاهب، من قولهم مرّ الشيء، واستمرّ إذا ذهب، وبه قال قتادة، ومجاهد، وغيرهما، واختاره النحاس. وقيل: معنى مستمرّ: دائم مطرد، ومنه قول الشاعر:
ألا إنما الدنيا ليال وأعصر *** وليس على شيء قديم بمستمر
أي: بدائم باق، وقيل: {مستمرّ}: باطل، روي هذا عن أبي عبيدة أيضاً. وقيل: يشبه بعضه بعضاً، وقيل: قد مرّ من الأرض إلى السماء، وقيل: هو من المرارة، يقال: مرّ الشيء صار مرًّا، أي: مستبشع عندهم. وفي هذه الآية أعظم دليل على أن الانشقاق قد كان، كما قررناه سابقاً. ثم ذكر سبحانه تكذيبهم، فقال: {وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَاءهُمْ} أي: وكذبوا رسول الله، وما عاينوا من قدرة الله، واتبعوا أهواءهم، وما زيّنه لهم الشيطان الرجيم، وجملة: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} مستأنفة لتقرير بطلان ما قالوه من التكذيب، واتباع الأهواء، أي: وكل أمر من الأمور منته إلى غاية، فالخير يستقرّ بأهل الخير، والشرّ يستقر بأهل الشرّ. قال الفراء: يقول يستقرّ قرار تكذيبهم، وقرار قول المصدّقين حتى يعرفوا حقيقته بالثواب والعقاب. قال الكلبي: المعنى لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا فسيظهر، وما كان منه في الآخرة فسيعرف. قرأ الجمهور {مستقرّ} بكسر القاف، وهو مرتفع على أنه خبر المبتدأ وهو {كل}. وقرأ أبو جعفر، وزيد بن علي بجر: {مستقرّ} على أنه صفة ل {أمر}، وقرأ شيبة بفتح القاف، ورويت هذه القراءة عن نافع. قال أبو حاتم: ولا وجه لها، وقيل: لها وجه بتقدير مضاف محذوف، أي: وكل أمر ذو استقرار، أو زمان استقرار، أو مكان استقرار، على أنه مصدر، أو ظرف زمان، أو ظرف مكان {وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الأنباء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي: ولقد جاء كفار مكة، أو الكفار على العموم من الأنباء، ومن أخبار الأمم المكذبة المقصوصة علينا في القرآن {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي: ازدجار على أنه مصدر ميميّ، يقال: زجرته: إذا نهيته عن السوء ووعظته، ويجوز أن يكون اسم مكان، والمعنى: جاءهم ما فيه موضع ازدجار، أي: أنه في نفسه موضع لذلك، وأصله: مزتجر، وتاء الافتعال تقلب دالاً مع الزاي والدال والذال، كما تقرّر في موضعه، وقرأ زيد بن عليّ: {مزجّر} بقلب تاء الافتعال زاياً وإدغام الزاي في الزاي، و{من} في قوله: {مّنَ الأنباء} للتبعيض، وهي وما دخلت عليه في محل نصب على الحال، وارتفاع {حِكْمَةٌ بالغة} على أنها خبر مبتدأ محذوف، أو بدل من {ما} بدل كل من كل، أو بدل اشتمال، والمعنى: أن القرآن حكمة قد بلغت الغاية ليس فيها نقص ولا خلل، وقرئ بالنصب على أنها حال من ما أي: حال كون ما فيه مزدجر حكمة بالغة {فَمَا تُغْنِى النذر} {ما} يجوز أن تكون استفهامية، وأن تكون نافية، أي: أيّ شيء تغني النذر، أو لم تغن النذر شيئًا، والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجيء الحكمة البالغة، والنذر جمع نذير بمعنى: المنذر، أو بمعنى الإنذار على أنه مصدر.
ثم أمره الله سبحانه بالإعراض عنهم، فقال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي: أعرض عنهم حيث لم يؤثر فيهم الإنذار، وهي منسوخة بآية السيف {يَوْمَ يَدْعُو الداع إلى شَئ نُّكُرٍ} انتصاب الظرف إما بفعل مقدّر، أي: اذكر، وإما ب {يخرجون} المذكور بعده، وإما بقوله: {فَمَا تُغْنِى}، ويكون قوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} اعتراض، أو بقوله: {يَقُولُ الكافرون} أو بقوله: {خُشَّعاً} وسقطت الواو من {يدع} اتباعاً للفظ، وقد وقعت في الرسم هكذا، وحذفت الياء من الداع للتخفيف، واكتفاء بالكسرة، والداع: هو إسرافيل، والشيء النكر: الأمر الفظيع الذي ينكرونه استعظاماً له لعدم تقدّم العهد لهم بمثله. قرأ الجمهور بضم الكاف. وقرأ ابن كثير بسكونها تخفيفاً. وقرأ مجاهد، وقتادة بكسر الكاف، وفتح الراء على صيغة الفعل المجهول {خُشَّعاً أبصارهم} قرأ الجمهور: {خشعاً} جمع خاشع. وقرأ حمزة، والكسائي وأبو عمرو: {خاشعاً} على الإفراد، ومنه قول الشاعر:
وَشَبَاب حَسَن أَوْجُهُهُم من *** إياد بن نِزارِ بن مَعد
وقرأ ابن مسعود: {خاشعة} قال الفراء: الصفة إذا تقدّمت على الجماعة جاز فيها التذكير والتأنيث والجمع، يعني: جمع التكسير لا جمع السلامة؛ لأنه يكون من الجمع بين فاعلين، ومثل قراءة الجمهور قول امرئ القيس:
وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم *** يقولون لا تهلك أسى وتجلد
وانتصاب {خشعاً} على الحال من فاعل يخرجون، أو من الضمير في {عنهم}، والخشوع في البصر: الخضوع والذلة، وأضاف الخشوع إلى الأبصار؛ لأن العزّ والذلّ يتبين فيها {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} أي: يخرجون من القبور، وواحد الأجداث: جدث، وهو القبر، كأنهم لكثرتهم واختلاط بعضهم ببعض جراد منتشر، أي: منبث في الأقطار مختلط بعضه ببعض.
{مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع} الإهطاع: الإسراع، أي: قال كونهم مسرعين إلى الداعي، وهو إسرافيل، ومنه قول الشاعر:
بِدجْلةَ دَارهُم ولقد أرَاهُمْ *** بِدجْلَةََ مُهْطِْعين إلى السَّماعِ
أي: مسرعين إليه، وقال الضحاك: مقبلين، وقال قتادة: عامدين.
وقال عكرمة: فاتحين آذانهم إلى الصوت، والأوّل أولى، وبه قال أبو عبيدة، وغيره، وجملة: {يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} في محل نصب على الحال من ضمير {مهطعين}، والرابط مقدر، أو مستأنفة جواب سؤال مقدّر؛ كأنه قيل: فماذا يكون حينئذ، والعسر: الصعب الشديد، وفي إسناد هذا القول إلى الكفار دليل على أن اليوم ليس بشديد على المؤمنين. ثم ذكر سبحانه تفصيل بعض ما تقدّم من الأنباء المجملة فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أي: كذبوا نبيهم، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: {فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} تفسير لما قبله من التكذيب المبهم، وفيه مزيد تقرير وتأكيد، أي: فكذبوا عبدنا نوحاً، وقيل المعنى: كذبت قوم نوح الرسل، فكذبوا عبدنا نوحاً بتكذيبهم للرسل فإنه منهم. ثم بيّن سبحانه أنهم لم يقتصروا على مجرّد التكذيب، فقال: {وَقَالُواْ مَجْنُونٌ} أي: نسبوا نوحاً إلى الجنون، وقوله: {وازدجر} معطوف على قالوا، أي: وزجر عن دعوى النبوّة، وعن تبليغ ما أرسل به بأنواع الزجر، والدال بدل من تاء الافتعال، كما تقدّم قريباً، وقيل: إنه معطوف على {مجنون} أي: وقالوا إنه ازدجر. أي: ازدجرته الجنّ، وذهبت بلبه، والأوّل أولى. قال مجاهد: هو من كلام الله سبحانه أخبر عنه بأنه انتهر وزجر بالسبّ وأنواع الأذى. قال الرازي: وهذا أصح؛ لأن المقصود تقوية قلب النبيّ صلى الله عليه وسلم بذكر من تقدّمه. {فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فانتصر} أي: دعا نوح ربه على قومه بأني مغلوب من جهة قومي، لتمرّدهم عن الطاعة، وزجرهم لي عن تبليغ الرسالة، فانتصر لي، أي: انتقم لي منهم. طلب من ربه سبحانه النصرة عليهم لما أيس من إجابتهم، وعلم تمرّدهم وعتوّهم، وإصرارهم على ضلالتهم. قرأ الجمهور: {أني} بفتح الهمزة، أي: بأني. وقرأ ابن أبي إسحاق، والأعمش بكسر الهمزة، ورويت هذه القراءة عن عاصم على تقدير إضمار القول، أي: فقال. ثم ذكر سبحانه ما عاقبهم به فقال: {فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ} أي منصبّ انصباباً شديداً، والهمر: الصبّ بكثرة، يقال: همر الماء والدمع يهمر همراً، وهموراً: إذا كثر، ومنه قول الشاعر:
أعينيّ جُودا بالدَّموعِ الهَوَامرِ *** على خيرِ بَادٍ من مَعَدٍّ وحَاضِرِ
ومنه قول امرئ القيس يصف عيناً:
رَاحَ تمرّ به الصَّبَا ثم انْتَحَى *** فيه بشُؤْبوُب جَنُوبٍ مُنْهَمرِ
قرأ الجمهور {فتحنا} مخففاً. وقرأ ابن عامر، ويعقوب بالتشديد {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} أي: جعلنا الأرض كلها عيوناً متفجرة، والأصل: فجرنا عيون الأرض.
قرأ الجمهور {فجرنا} بالتشديد. وقرأ ابن مسعود، وأبو حيوة، وعاصم في رواية عنه بالتخفيف. قال عبيد بن عمير: أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها، فتفجرت بالعيون. {فَالْتَقَى الماء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي: التقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قضي عليهم، أي: كائناً على حال قدّرها الله وقضى بها.
وحكى ابن قتيبة أن المعنى على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر، بل كان ماء السماء وماء الأرض على سواء. قال قتادة: قدّر لهم إذا كفروا أن يغرقوا. وقرأ الجحدري {فالتقى الماءان} وقرأ الحسن {فالتقى الماوان} ورويت هذه القراءة عن عليّ بن أبي طالب، ومحمد بن كعب: {وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ ألواح وَدُسُرٍ} أي: وحملنا نوحاً على سفينة ذات ألواح، وهي الأخشاب العريضة {وَدُسُرٍ} قال الزجاج: هي المسامير التي تشدّ بها الألواح واحدها: دسار، وكل شيء أدخل في شيء يشدّه فهو الدسر، وكذا قال قتادة، ومحمد بن كعب، وابن زيد، وسعيد بن جبير، وغيرهم.
وقال الحسن، وشهر بن حوشب، وعكرمة: الدسر: ظهر السفينة التي يضربها الموج، سميت بذلك لأنها تدسر الماء، أي: تدفعه، والدسر: الدفع.
وقال الليث: الدسار: خيط تشدّ به ألواح السفينة. قال في الصحاح: الدسار واحد الدسر: وهي خيوط تشدّ بها ألواح السفينة، ويقال: هي المسامير {تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} أي: بمنظر ومرأى منا وحفظ لها، كما في قوله: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] وقيل: بأمرنا، وقيل: بوحينا، وقيل: بالأعين النابعة من الأرض، وقيل: بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها {جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ} قال الفراء: فعلنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثواباً لمن كفر به وجحد أمره، وهو نوح عليه السلام، فإنه كان لهم نعمة كفروها، فانتصاب {جزاء} على العلة، وقيل: على المصدرية بفعل مقدّر، أي: جازيناهم جزاء. قرأ الجمهور {كفر} مبنياً للمفعول، والمراد به نوح. وقيل: هو الله سبحانه، فإنهم كفروا به، وجحدوا نعمته. وقرأ يزيد بن رومان، وقتادة، ومجاهد، وحميد، وعيسى كفر بفتح الكاف، والفاء مبنياً للفاعل، أي: جزاء وعقاباً لمن كفر بالله. {وَلَقَدْ تركناها ءايَةً} أي: السفينة تركها الله عبرة للمعتبرين، وقيل المعنى: ولقد تركنا هذه الفعلة التي فعلناها بهم عبرة، وموعظة. {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أصله: مذتكر، فأبدلت التاء دالاً مهملة، ثم أبدلت المعجمة مهملة لتقاربهما، وأدغمت الدال في الذال، والمعنى: هل من متعظ ومعتبر يتعظ بهذه الآية، ويعتبر بها. {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} أي: إنذاري. قال الفراء: الإنذار والنذر مصدران، والاستفهام للتهويل والتعجيب، أي: كانا على كيفية هائلة عجيبة لا يحيط بها الوصف، وقيل: نذر جمع نذير، ونذير بمعنى الإنذار كنكير: بمعنى الإنكار {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ} أي: سهلناه للحفظ، وأعنا عليه من أراد حفظه، وقيل: هيأناه للتذكر والاتعاظ {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي: متعظ بمواعظه ومعتبر بعبره.
وفي الآية الحث على درس القرآن، والاستكثار من تلاوته، والمسارعة في تعلمه، ومدكر أصله: مذتكر، كما تقدّم قريباً.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أنس: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما.
وروي عنه من طريق أخرى عند مسلم، والترمذي، وغيرهم وقال: فنزلت: {اقتربت الساعة وانشق القمر} وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا».
وأخرج عبد بن حميد، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عنه قال: رأيت القمر منشقاً شقتين مرّتين: مرّة بمكة قبل أن يخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم: شقة على أبي قبيس، وشقة على السويداء. وذكر أن هذا سبب نزول الآية.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم عنه أيضاً قال: رأيت القمر وقد انشقّ، وأبصرت الجبل بين فرجتي القمر. وله طرق عنه.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عباس قال: انشقّ القمر في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وله طرق عنه.
وأخرج مسلم، والترمذي، وغيرهما عن ابن عمر في قوله: {اقتربت الساعة وانشق القمر} قال: كان ذلك على عهد رسول الله انشقّ فرقتين: فرقة من دون الجبل، وفرقة خلفه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهم اشهد».
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عن جبير بن مطعم عن أبيه في قوله: {وانشق القمر} قال: انشقّ القمر ونحن بمكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقال الناس: سحرنا محمد، فقال رجل: إن كان سحركم، فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير، وابن مردويه، وأبو نعيم عن عبد الرحمن السلمي قال: خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: {اقتربت الساعة وانشق القمر}، ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشقّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، اليوم المضمار وغداً السباق.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {مُهْطِعِينَ} قال: ناظرين.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه {فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ} قال كثير: لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم، ولا بعده إلاّ من السحاب، وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم، فالتقى الماءان.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عنه أيضاً {على ذَاتِ ألواح وَدُسُرٍ} قال: الألواح: ألواح السفينة، والدسر: معاريضها التي تشد بها السفينة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً في قوله: {وَدُسُرٍ} قال: المسامير.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه قال: الدسر كلكل السفينة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي عنه أيضاً في قوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ} قال: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلموا بكلام الله.
وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعاً مثله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن ابن عباس {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} قال: هل من متذكر.


قوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ} هم: قوم عاد {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} أي: فاسمعوا كيف كان عذابي لهم وإنذاري إياهم، ونذر مصدر بمعنى إنذار، كما تقدّم تحقيقه، والاستفهام للتهويل والتعظيم {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} هذه الجملة مبينة لما أجمله سابقاً من العذاب، والصرصر: شدّة البرد، أي: ريح شديدة البرد، وقيل: الصرصر: شدّة الصوت، وقد تقدّم بيانه في سورة حمالسجدة {فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ} أي: دائم الشؤم استمرّ عليهم بنحوسه، وقد كانوا يتشاءمون بذلك اليوم. قال الزجاج: قيل: في يوم الأربعاء في آخر الشهر. قرأ الجمهور: {في يوم نحس} بإضافة {يوم} إلى {نحس} مع سكون الحاء، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، أو على تقدير مضاف أي في يوم عذاب نحس. وقرأ الحسن بتنوين {يوم} على أن {نحس} صفة له. وقرأ هارون بكسر الحاء. قال الضحاك: كان ذلك اليوم مرّاً عليهم. وكذا حكى الكسائي عن قوم أنهم قالوا: هو من المرارة، وقيل: هو من المرّة بمعنى: القوّة، أي: في يوم قويّ الشؤم مستحكمه، كالشيء المحكم الفتل الذي لا يطاق نقضه، والظاهر أنه من الاستمرار، لا من المرارة، ولا من المرّة، أي: دام عليهم العذاب فيه حتى أهلكهم، وشمل بهلاكه كبيرهم وصغيرهم. وجملة: {تَنزِعُ الناس}: في محل نصب على أنها صفة ل {ريحاً}، أو حال منها، ويجوز أن يكون استئنافاً، أي: تقلعهم من الأرض من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها. قال مجاهد: كانت تقلعهم من الأرض، فترمي بهم على رؤوسهم فتدقّ أعناقهم، وتبين رؤوسهم من أجسادهم، وقيل: تنزع الناس من البيوت، وقيل: من قبورهم؛ لأنهم حفروا حفائر ودخلوها {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} الأعجاز: جمع عجز، وهو مؤخر الشيء، والمنقعر: المنقطع المنقلع من أصله، يقال: قعرت النخلة: إذا قلعتها من أصلها حتى تسقط. شبههم في طول قاماتهم حين صرعتهم الريح، وطرحتهم على وجوههم بالنخل الساقط على الأرض التي ليست لها رؤوس، وذلك أن الرّيح قلعت رؤوسهم أولاً، ثم كتّبتهم على وجوههم، وتذكير منقعر مع كونه صفة لأعجاز نخل، وهي مؤنثة اعتباراً باللفظ، ويجوز تأنيثه اعتباراً بالمعنى، كما قال: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] قال المبرد: كل ما ورد عليك من هذا الباب إن شئت رددته إلى اللفظ تذكيراً، أو إلى المعنى تأنيثاً. وقيل: إن النخل والنخيل يذكر ويؤنث {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} قد تقدّم تفسيره قريباً، وكذلك قوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}. ثم لما ذكر سبحانه تكذيب عاد أتبعه بتكذيب ثمود، فقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر} يجوز أن يكون جمع نذير، أي: كذبت بالرّسل المرسلين إليهم، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار، أي: كذبت بالإنذار الذي أنذروا به، وإنما كان تكذيبهم لرسولهم وهو صالح تكذيباً للرسل؛ لأن من كذب واحداً من الأنبياء فقد كذب سائرهم؛ لاتفاقهم في الدعوة إلى كليات الشرائع {فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا واحدا نَّتَّبِعُهُ} الاستفهام للإنكار، أي: كيف نتبع بشراً كائناً من جنسنا منفرداً وحده لا متابع له على ما يدعو إليه.
قرأ الجمهور: بنصب {بشراً} على الاشتغال، أي: أنتبع بشراً واحداً. وقرأ أبو السماك، والداني، وأبو الأشهب، وابن السميفع بالرفع على الابتداء، و{واحداً} صفته، و{نتبعه} خبره.
وروي عن أبي السماك أنه قرأ برفع {بشراً} ونصب {واحداً} على الحال {إِنَّا إِذاً لَّفِى ضلال} أي: إنا إذا اتبعناه لفي خطأ، وذهاب عن الحق {وَسُعُرٍ} أي: عذاب وعناء وشدّة كذا قال الفراء، وغيره.
وقال أبو عبيدة: هو جمع سعير، وهو لهب النار، والسعر: الجنون يذهب كذا وكذا لما يلتهب به من الحدّة.
وقال مجاهد: {وسعر} وبُعد عن الحقّ.
وقال السديّ: في احتراق، وقيل المراد به هنا: الجنون، من قولهم: ناقة مسعورة أي: كأنها من شدّة نشاطها مجنونة، ومنه قول الشاعر يصف ناقة:
تَخالُ بها سُعْراً إِذَا السَّعْرُ هَزَّهَا *** ذَمِيلٌ وإِيقاعٌ من السَّيْرِ مُتْعِبُ
ثم كرّروا الإنكار والاستبعاد فقالوا: {أألقي الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} أي: كيف خصّ من بيننا بالوحي والنبوّة، وفينا من هو أحقّ بذلك منه؟ ثم أضربوا عن الاستنكار، وانتقلوا إلى الجزم بكونه كذاباً أشراً فقالوا: {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} والأشر: المرح والنشاط، أو البطر والتكبر، وتفسيره بالبطر والتكبر أنسب بالمقام، ومنه قول الشاعر:
أشِرتُمْ بِلْبس الخَزَّ لما لَبِستُمُ *** ومن قبلُ لا تْدرون مَنْ فَتَحَ القُرى
قرأ الجمهور {أشر} كفرح. وقرأ أبو قلابة، وأبو جعفر بفتح الشين وتشديد الرّاء على أنه أفعل تفضيل، ونقل الكسائي عن مجاهد أنه قرأ بضم الشين مع فتح الهمزة. ثم أجاب سبحانه عليهم بقوله: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر} والمراد بقوله: {غداً}: وقت نزول العذاب بهم في الدنيا، أو في يوم القيامة جرياً على عادة الناس في التعبير بالغد عن المستقبل من الأمر وإن بعد، كما في قولهم: إن مع اليوم غداً، وكما في قول الحطيئة:
للموت فيها سِهامٌ غَيْرُ مُخْطِئَةٍ *** مَنْ لم يكن مَيَّتاً في اليوم ماتَ غَدَا
ومنه قول أبي الطماح:
ألا عَللاِني قَبْل نوح النَّوائحِ *** وَقَبْلَ اضْطرَابِ النَّفسِ بَين الجَوَانِحِ
وقبلَ غَدٍ يا لَهْف نَفْسي على غَد *** إذَا رَاحَ أصْحابِي ولستُ برائحِ
قرأ الجمهور {سيعلمون} بالتحتية إخبار من الله سبحانه لصالح عن وقوع العذاب عليهم بعد مدة. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة بالفوقية على أنه خطاب من صالح لقومه، وجملة: {إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة} مستأنفة لبيان ما تقدّم إجماله من الوعيد، أي: إنا مخرجوها من الصخرة على حسب ما اقترحوه {فِتْنَةً لَّهُمْ} أي: ابتلاء وامتحاناً، وانتصاب {فتنة} على العلة {فارتقبهم} أي: انتظر ما يصنعون {واصطبر} على ما يصيبك من الأذى منهم {وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} أي: بين ثمود وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم، كما في قوله: {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155] وقال: {نبئهم} بضمير العقلاء تغليباً. {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} الشرب بكسر الشين: الحظ من الماء. ومعنى {محتضر}: أنه يحضره من هو له، فالناقة تحضره يوماً، وهم يحضرونه يوماً. قال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم نوبتهم فيشربون، ويحضرون يوم نوبتها فيحتلبون. قرأ الجمهور. {قسمة} بكسر القاف بمعنى: مقسوم، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بفتحها {فَنَادَوْاْ صاحبهم} أي: نادى ثمود صاحبهم وهو قدار بن سالف عاقر الناقة يحضونه على عقرها {فتعاطى فَعَقَرَ} أي: تناول الناقة بالعقر فعقرها، أو اجترأ على تعاطي أسباب العقر فعقر. قال محمد بن إسحاق: كمن لها في أصل شجرة على طريقها، فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها، ثم شدّ عليها بالسيف، فكسر عرقوبها، ثم نحرها، والتعاطي: تناول الشيء بتكلف {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} قد تقدّم تفسيره في هذه السورة. ثم بيّن ما أجمله من العذاب فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحدة} قال عطاء: يريد صيحة جبريل، وقد مضى بيان هذا في سورة هود، وفي الأعراف {فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} قرأ الجمهور بكسر الظاء، والهشيم: حطام الشجر ويابسه، والمحتظر: صاحب الحظيرة، وهو الذي يتخذ لغنمه حظيرة تمنعها عن برد الرّيح، يقال: احتظر على غنمه: إذا جمع الشجر ووضع بعضه فوق بعض. قال في الصحاح: والمحتظر: الذي يعمل الحظيرة. وقرأ الحسن، وقتادة، وأبو العالية بفتح الظاء أي: كهشيم الحظيرة، فمن قرأ بالكسر أراد الفاعل للاحتظار، ومن قرأ بالفتح أراد الحظيرة، وهي فعيلة بمعنى مفعولة ومعنى الآية: أنهم صاروا كالشجر إذا يبس في الحظيرة، وداسته الغنم بعد سقوطه، ومنه قول الشاعر:
أثرن عجاجه كدخان نار *** تشب بغرقد بال هشيم
وقال قتادة: هو العظام النخرة المحترقة.
وقال سعيد بن جبير: هو التراب المتناثر من الحيطان في يوم ريح.
وقال سفيان الثوري: هو ما يتناثر من الحظيرة إذا ضربتها بالعصي. قال ابن زيد: العرب تسمي كل شيء كان رطباً فيبس هشيماً، ومنه قول الشاعر:
ترى جيف المطيّ بجانبيه *** كأن عظامها خشب الهشيم
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} قد تقدم تفسير هذا في هذه السورة. ثم أخبر سبحانه عن قوم لوط بأنهم كذبوا رسل الله، كما كذبهم غيرهم، فقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر} وقد تقدّم تفسير النذر قريباً.
ثم بيّن سبحانه ما عذبهم به، فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حاصبا} أي: ريحاً ترميهم بالحصباء، وهي الحصى. قال أبو عبيدة، والنضر بن شميل: الحاصب: الحجارة في الريح. قال في الصحاح: الحاصب: الريح الشديدة التي تثير الحصباء، ومنه قول الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام يضربها *** بحاصب كنديف القطن منثور
{إِلاَّ الَ لُوطٍ نجيناهم بِسَحَرٍ} يعني: لوطاً ومن تبعه، والسحر: آخر الليل، وقيل: هو في كلام العرب اختلاط سواد الليل ببياض أوّل النهار، وانصرف {سحر} لأنه نكرة لم يقصد به سحر ليلة معينة، ولو قصد معيناً لامتنع. كذا قال: الزجاج، والأخفش، وغيرهما. وانتصاب {نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا} على العلة، أو على المصدرية، أي: إنعاماً منا على لوط، ومن تبعه. {كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ} أي: مثل ذلك الجزاء نجزي من شكر نعمتنا، ولم يكفرها {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا} أي: أنذر لوط قومه بطشة الله بهم، وهي عذابه الشديد، وعقوبته البالغة {فَتَمَارَوْاْ بالنذر} أي: شكوا في الإنذار ولم يصدّقوه، وهو تفاعلوا من المرية، وهي الشك {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} أي: أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الملائكة ليفجروا بهم، كما هو دأبهم، يقال راودته عن كذا مراودة ورواداً، أي: أردته، وراد الكلام يروده روداً، أي: طلبه، وقد تقدّم تفسير المراودة مستوفى في سورة يوسف {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} أي: صيرنا أعينهم ممسوحة لا يرى لها شقّ، كما تطمس الريح الأعلام بما تسفي عليها من التراب. وقيل: أذهب الله نور أبصارهم مع بقاء الأعين على صورتها. قال الضحاك: طمس الله على أبصارهم، فلم يروا الرسل، فرجعوا {فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ} قد تقدّم تفسيره في هذه السورة {وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} أي: أتاهم صباحاً عذاب مستقرّ بهم نازل عليهم لا يفارقهم ولا ينفك عنهم. قال مقاتل: استقرّ بهم العذاب بكرة، وانصراف {بكرة} لكونه لم يرد بها وقتاً بعينه، كما سبق في {بسحر}: {فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} قد تقدّم تفسير هذا في هذه السورة، ولعل وجه تكرير تيسير القرآن للذكر في هذه السورة الإِشعار بأنه منة عظيمة لا ينبغي لأحد أن يغفل عن شكرها.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} قال: باردة {فِى يَوْمِ نَحْسٍ} قال: أيام شداد.
وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم الأربعاء يوم نحس مستمر»، وأخرجه عنه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعاً.
وأخرجه ابن مردويه عن عليّ مرفوعاً.
وأخرجه ابن مردويه أيضاً عن أنس مرفوعاً، وفيه قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: «أغرق الله فيه فرعون وقومه، وأهلك فيه عاداً، وثمود».
وأخرج ابن مردويه، والخطيب بسند. قال السيوطي: ضعيف عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر».
وأخرج ابن المنذر عنه {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} قال: أصول النخل {مُّنقَعِرٍ} قال: منقلع.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: أعجاز سواد النخل.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً {وَسُعُرٍ} قال: شقاء.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً قال: {كَهَشِيمِ المحتظر} قال: كحظائر من الشجر محترقة.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال: كالعظام المحترقة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عنه قال: كالحشيش تأكله الغنم.


{النذر} يجوز أن يكون جمع نذير، ويجوز أن يكون مصدر بمعنى: الإنذار كما تقدّم، وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى، وهذا أولى لقوله: {كَذَّبُواْ بئاياتنا كُلَّهَا} فإنه بيان لذلك، والمراد بها: الآيات التسع التي تقدّم ذكرها {فأخذناهم أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} أي: أخذناهم بالعذاب أخذ غالب في انتقامه قادر على إهلاكهم لا يعجزه شيء، ثم خوّف سبحانه كفار مكة فقال: {أكفاركم خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ} والاستفهام للإنكار، والمعنى النفي، أي: ليس كفاركم يا أهل مكة، أو يا معشر العرب خير من كفار من تقدّمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم، فكيف تطمعون في السلامة من العذاب، وأنتم شرّ منهم. ثم أضرب سبحانه عن ذلك، وانتقل إلى تبكيتهم بوجه آخر هو أشد من التبكيت بالوجه الأوّل، فقال: {أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِى الزبر} والزبر هي الكتب المنزلة على الأنبياء، والمعنى: إنكار أن تكون لهم براءة من عذاب الله في شيء من كتب الأنبياء. ثم أضرب عن هذا التبكيت، وانتقل إلى التبكيت لهم بوجه آخر، فقال: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} أي: جماعة لا تطاق لكثرة عددنا وقوّتنا، أو أمرنا مجتمع لا نغلب، وأفرد منتصراً اعتباراً بلفظ جميع. قال الكلبي: المعنى نحن جميع أمرنا ننتصر من أعدائنا، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله: {سَيُهْزَمُ الجمع} أي: جمع كفار مكة، أو كفار العرب على العموم. قرأ الجمهور {سيهزم} بالتحتية مبنياً للمفعول. وقرأ ورش عن يعقوب: {سنهزم} بالنون وكسر الزاي ونصب الجمع. وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة بالتحتية مبنياً للفاعل، وقرئ بالفوقية مبنياً للفاعل {وَيُوَلُّونَ الدبر} قرأ الجمهور {يولون} بالتحتية، وقرأ عيسى، وابن أبي إسحاق، وورش عن يعقوب بالفوقية على الخطاب، والمراد بالدبر: الجنس، وهو في معنى الإدبار، وقد هزمهم الله يوم بدر، وولوا الأدبار، وقتل رؤساء الشرك، وأساطين الكفر، فلله الحمد. {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} أي: موعد عذابهم الأخرويّ، وليس هذا العذاب الكائن في الدنيا بالقتل والأسر والقهر، وهو تمام ما وعدوا به من العذاب، وإنما هو مقدّمة من مقدّماته وطليعة من طلائعه، ولهذا قال: {والساعة أدهى وَأَمَرُّ} أي: وعذاب الساعة أعظم في الضرّ وأفظع، مأخوذ من الدهاء، وهو النكر والفظاعة، ومعنى أمرّ: أشد مرارة من عذاب الدنيا، يقال: دهاه أمر كذا، أي: أصابه دهواً ودهياً. {إِنَّ المجرمين فِى ضلال وَسُعُرٍ} أي: في ذهاب عن الحقّ وبعد عنه، وقد تقدّم في هذه السورة تفسير {وَسُعُرٍ}، فلا نعيده {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ} والظرف منتصب بما قبله، أي: كائنون في ضلال وسعر يوم يسحبون، أو بقول مقدّر بعده، أي: يوم يسحبون يقال لهم: {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} أي: قاسوا حرّها وشدّة عذابها، وسقر: علم لجهنم.
وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بإدغام سين {مسّ} في سين {سقر} {إِنَّا كُلَّ شَئ خلقناه بِقَدَرٍ} قرأ الجمهور بنصب {كل} على الاشتغال. وقرأ أبو السماك بالرفع، والمعنى: أن كل شيء من الأشياء خلقه الله سبحانه ملتبساً بقدر قدّره، وقضاء قضاه سبق في علمه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، والقدر: التقدير، وقد قدّمنا الكلام على تفسير هذه الآية مستوفى. {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة كَلَمْحٍ بالبصر} أي: إلا مرة واحدة، أو كلمة واحدة كلمح بالبصر في سرعته، واللمح: النظر على العجلة والسرعة. وفي الصحاح لمحه وألمحه: إذا أبصره بنظر خفيف، والاسم اللمحة. قال الكلبي: وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلاّ كطرف البصر. {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أشياعكم} أي: أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم، وقيل: أتباعكم وأعوانكم {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} يتذكر ويتّعظ بالمواعظ، ويعلم أن ذلك حق، فيخاف العقوبة، وأن يحل به ما حلّ بالأمم السالفة {وَكُلُّ شَئ فَعَلُوهُ فِى الزبر} أي: جميع ما فعلته الأمم من خير أو شرّ مكتوب في اللوح المحفوظ، وقيل: في كتب الحفظة {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} أي: كل شيء من أعمال الخلق وأقوالهم وأفعالهم مسطور في اللوح المحفوظ صغيره وكبيره، وجليله وحقيره، يقال: سطر يسطر سطراً كتب، وأسطر مثله. ثم لما فرغ سبحانه من ذكر حال الأشقياء ذكر حال السعداء فقال: {إِنَّ المتقين فِى جنات وَنَهَرٍ} أي: في بساتين مختلفة، وجنان متنوعة، وأنهار متدفقة. قرأ الجمهور: {ونهر} بفتح الهاء على الإفراد، وهو جنس يشمل أنهار الجنة، وقرأ مجاهد، والأعرج، وأبو السماك بسكون الهاء وهما لغتان، وقرأ أبو مجلز، وأبو نهشل، والأعرج، وطلحة بن مصرف، وقتادة {نهر} بضم النون، والهاء على الجمع {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} أي: في مجلس حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم، وهو الجنة {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} أي قادر على ما يشاء لا يعجزه شيء، و{عند} هنا كناية عن الكرامة، وشرف المنزلة، وقرأ عثمان البستي: {في مقاعد صدق}.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس {أكفاركم خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ} يقول: ليس كفاركم خير من قوم نوح، وقوم لوط.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن منيع، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عنه في قوله: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} قال: كان ذلك يوم بدر قالوا: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} فنزلت هذه الآية. وفي البخاري، وغيره عنه أيضاً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر: «أنشدك عهدك ووعدك، اللَّهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً»، فأخذ أبو بكر بيده، وقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك، فخرج، وهو يثب في الدرع، ويقول: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر * بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وَأَمَرُّ}.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ}.
وأخرج مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل شيء بقدر حتى العجز، والكيس».
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} قال: مسطور في الكتاب.